استفهام يفيد تفخيم وتعظيم وعلو شأن المستفهم عنه وهو ليله القدر ، وفعل أدراك من الدرايه بالشيئ ، والدرايه بالشيئ هي العلم به من كل الوجوه ، وهي نوع من العلم لا يكون الإنسان بعده كما كان قبله، ولذا يندر استخدام تلك الكلمه عند الراسخين في العلم. ليس هذا فقط ، بل نجد ايضا ان هذا النوع من الاستفهام قد تكرر في عده مواضع في الخطاب القرآني ، وفي كل هذه المواضع كان الشيئ المستفهم عنه من العظمه والمكانه والفخامه ما يستدعي معه استخدام فعل أدراك: وما أدراك ما الحاقة ، وما أدراك ما الحطمة ، وما أدراك ما القارعة ، وما أدراك ما يوم الدين ، وما أدراك ما يوم الفصل ، وما أدراك ما سقر ، وما أدراك ما عليون ، وما أدراك ما الطارق ، وغيرها من المواضع ، وفي كل موضع يكون هذا الاستفهام متبوعا بالإجابه الإلهيه التي تفيد الدرايه لمن أراد.

وهنا بعد هذا الاستفهام جاءت الآيات التاليه لتعطي الدرايه بليله القدر بانها ليله خير من ألف شهر وبأن الملائكة والروح يتنزلون فيها بإذن ربهم من كل أمر ، وبأن السلام هو جوهرها ومنتهاها ومبتغاها ، هذا فضلا عن ما ورد في صدر السوره بأن الله أنزل القرآن في تلك الليله. وبتدبر هذه الآيات نجد ان الله قد اختص نفسه بشيئين واختص الإنسان بشيئين: الله اختص نفسه بأنه في هذه الليله قد أنزل القرآن وبأنه يأذن للملائكه والروح بأن يتنزلوا كل مره يحين وقتها ، واختص الإنسان بأن ما يفعله في هذه الليله خير له من نفس الفعل في مده أربع وثمانين سنه ، وبأن السلام هو جائزته الوقتيه إذا أدرك حقا هذه الليله.

أيضا نلاحظ أن الله قد إختص نفسه بأفعال ، أحد هذه الأفعال هو أنه أنزل القرآن (وقد حدث) والآخر هو الإذن للملائكه والروح بالتنزل(وهذا يحدث كل مره يحين وقت هذه الليله). بينما إختص الإنسان بنتائج وليست أفعال ، نتائج متوقفه علي فعل أو أفعال يقوم بها ألإنسان في هذه الليله ، إحدي هذه النتائج غيبي ، والنتيجه الأخري حسيه يشعر بها الإنسان وهي السلام .

إذا تتحدث السوره عن افعال الهيه حدثت وتحدث ونتائج حسيه وغيبيه يحصدها الإنسان بينما لم تتحدث في المقابل عن ماهيه الفعل ( أو الأفعال ) الذي يجب علي الإنسان القيام به ليحصد تلك النتائج. والسؤال المنطقي الآن : ما هو هذا الفعل (أو الأفعال ) الذي به يدرك الإنسان ليله القدر ومن ثم يحصد نتائجها؟ أعلم ان الإجابه حاضره تتمحور حول قيام وذكر ودعاء واستغفار وتسبيح وأحيطكم علما بأنه ليس لدي مزيد ولكني أستدرك : أليست هذه أفعال يقوم بها كل مسلم في رمضان وغير رمضان ، إذا ما وجه خصوصيه هذه الأفعال في هذه الليله ثم ولنذهب ابعد من ذلك ونتساءل عن وجه خصوصيه من يحصد نتائجها حيث هذا الحصاد الصعب يتوقف علي الدرايه وليس فقط العلم ؟ وكالعاده نجد الإجابه عند الأسوه الحسنه ، من أوتي الكتاب والحكمه محمد رسول الله ” ص” حيث قال : إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل إمرئ ما نوي ، نعم ، إنها النيه ، النيه التي ينويها المسلم للقيام بهذه الأفعال في هذه الليله، فخصوصيه الأفعال الألهيه وخصوصيه وتفرد النتائج الإنسانيه تقتضي حتما خصوصيه في النيه الخاصه بأفعال الإنسان في المقابل، نعم يتجلي المعني في اسم الليلة ، حيث سماها الله ليله القدر أي قدر الله وقدر الإنسان.

إن ما حدث ويحدث من افعال إلهية في هذه الليله يعني قدر الإنسان عند الله ، وبالتالي ما يقوم به الإنسان من أفعال في هذه الليله يجب أن يكون بنيه التعبير عن قدر الله عند الإنسان . لن يكون هناك دهشه من هذه المعاني حينما نربط بين الأفعال الإلهيه التي حدثت وتحدث وقدر الإنسان عند الله الذي لا أجد كلمه تعبر عنه ولكن يحضرني في هذا المقام أربعه أفعال إلهيه إختص الله بهم بني آدم تعبر عن بعض من قدر الإنسان عند الله، والأفعال الأربعه هي : كرمنا ، حملنا ،رزقنا ، فضلنا (الآيه 70 سوره الإسراء).

لنذهب إلي الفعل الأول ” إنا أنزلناه” أي القرآن : كلام الله والذي يأتي وللأسف الشديد ( إلا من رحم الله ) ضمن قائمه من المسلمات التي يعلم الإنسان بوجودها ولكن يتجاوزها الي التفكير في المجهول الذي لا يعلمه !!! مع ان الله قد قال عن هذا القرآن ” لو أنزلنا هذا القرآن علي جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشيه الله “(الآيه 21 سوره الحشر) . أدعوكم لقراءه قصه الإعرابي والأصمعي والتوقف أمام هذا السؤال الذي سأله الإعرابي : وهل للرحمان كلام يتلوه الإنسان ؟ وكيف كانت دهشته من حدوث هذا تم يقينه المطلق بصدق ما سمع من ايات لا لشيئ الا لأنها كلام الله .

قد تلهمكم هذه القصه لتسألوا أنفسكم نفس السؤال ثم الإجابه تلهمكم بسؤال آخر وآخر وآخر حتي تصلوا الي هذا السؤال : لماذا ، لماذا أنزل الله القرآن ؟ إذا كنتم تفكرون الآن في إجابات هذا السؤال فمع كل إجابه سيولد وينمو ويتعاظم الإحساس بمعني ” قدر الإنسان عند الله ” ولكن دعوني أذهب بكم الي جزء من قمه هرم هذا المعني حينما نعلم أن القرآن كلام الله يفتح الباب أمام كل إنسان لكي يقترب من أخلاق وصفات الأنبياء ، بالقرآن : تتحدث إلي الله مثل موسي ، بالقرآن تصنع الفلك وتنجو من الطوفان مثل نوح ، بالقرآن يتلاشي خوفك من أي شيئ وعلي اي شيئ أمام خشيتك من الله مثل إبراهيم ، بالقرآن تحيي موات قلبك وقلب من حولك مثل عيسي ، بالقرآن تكون علي خلق عظيم مثل محمد . يقول الحق تبارك وتعالي ” ومن يطع الله والرسول فأولائك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا “(الايه 69 سوره النساء ) . نعم يفتح القرآن الباب أمام كل إنسان لكي يقترب من أخلاق وصفات الأنبياء أكثر أهل الأرض تعبيرا بالمخبر والمظهر ، بالأقوال والأفعال عن ” قدر الله عند الإنسان ” . هل إتضحت الصوره ؟ هل تشعرون الآن بقدر الإنسان عند الله ؟ انتظروا فهناك ماهو أكثر فالطريق إلي الله بلا سقف أو نهايه فكلما صعدت علوت ، وكلما أقدمت إرتقيت ، وكلما أبحرت إرتويت ، وكلما سجدت إقتربت .وهل هناك ما هو أكثر من صفات وأخلاق الأنبياء ؟ الإجابه : نعم ، ألم يأتينا الأمر الإلهي علي ألسنه من أوتو الكتاب والحكم والنبوه : ” كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ” (آيه 79 سوره آل عمران ) ثم قول الحق تبارك وتعالي علي لسان من لا ينطق عن الهوي : ولا يزال عبدي يتقرب الي بالنوافل حتي أحبه ، فإذا احببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به …. إلي آخر الحديث ، أي قدر هذا وماذا قدم هذا المخلوق المدعو الإنسان ليحظي بهذا القدر وينال هذا الشرف عند الخالق العظيم ؟ ويأتي ثاني الأفعال الإلهيه الذي يتجدد كل مره يحين فيها وقت هذه الليله ليؤكد ويثبت هذا القدر للإنسان عند الله حيث يأذن الله للملائكه والروح (جبريل الأمين) بالتنزل في هذه الليلة.

وما ينبغي التوقف أمامه كثيرا وكثيرا هنا هو الإذن الاإلهي لجبريل بالتنزل حيث لا يوجد وحي بعد محمد (ص) آخر الأنبياء ، فلماذا جبريل ؟ والإجابه في السياق القرآني لمن كانت لديه الدرايه بكلمه القدر في هذه الليله ، انها ليله من يعبدون الله علي طريقه الانبياء حيث نيتهم لعبادتهم التعبير عن قدر الله لديهم في الفعل والقول في المظهر والمخبر ،يتنزل جبريل وهو من اعتاد التنزل لنبي واحد ليراهم وقد إمتدت أنوار قلوبهم لتملأ فضاء هذا الكون ، وهي أنوار يعلمها جبريل ورآها في قلوب من اصطفاهم الله للنبوه والرساله والوحي ، ولكن وفي هذه الليله يراها جبريل ساطعه مدويه بدون ان يكون هناك وحي ، تسطع بها قلوب من كانت نيتهم في عبادتهم التعبير عن قدر الله لديهم فهي ليله القدر ، قدر الإنسان عند الله وقدر الله عند الإنسان .” اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني” ،  لماذا هذا الدعاء دون غيره في هذه الليله المباركه ؟ تأملوه جيدا وتذكروا أن من دعي به واوصانا ان ندعو به مففور ذنبه ما تقدم وما تأخر، إنه دعاء من هو علي درايه بقدر الله يدعوا به في ليله سماها الله ليله القدر ، وهو دعاء من هو علي درايه بقدره عند الله يدعوا به في ليله سماها الله ليله القدر.

ولا ينتهي قدر الانسان عند الله عند هذا المستوي فهناك المكافأه . الأولي هي ان عباده هذه الليله خير من عباده الف شهر . وبالنظر الي هذا الرقم فنجد انه يساوي بالسنين تقريبا اربعه وثمانون عاما ، وبتحليل هذه المده نجد انها تكافئ متوسط مده اليقظه التي يحياها كل انسان منذ ميلاده وحتي مماته ، وهذا المتوسط هو حاصل نتيجه اعمار( مطروح منها مده النوم ) الأولين والآخرين . وكما أسلفت فقد قلت أنها نتيجه غيبيه ولكن من يدري فمن يقترب إلي هذا المستوي قد تتلاشي قوانينه أمام قوانين من إقترب منه لتكون نتيجه حسيه ويشعر فعليا بقضائه لهذا الزمن . تم تأتي المكافأه الثانيه الحسيه الوقتيه وهي مكافأه من جنس الفعل حيث عباده الانبياء تجازي بما جازي الله به انبيائه في الحياه الدنيا وبما وعد به المؤمنين في الجنه ، انه السلام : سلام هي حتي مطلع الفجر ، دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام ،خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام ، سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبي الدار ، سلام علي نوح في العالمين ، سلام علي موسي وهارون ، سلام علي ابراهيم ، سلام علي إل ياسين ، وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا ، وغيرها من الآيات. تحروا ، تحينوا ، إلتمسوا ، هكذا يعلمنا من أوتي الكتاب والحكمه كيف نتعامل مع هذه الليله ؟ فهي تختلف عن أقيمو الصلاه وآتو الزكاه وكتب عليكم الصيام ، التحري والتحين والإلتماس هي أفعال تعني المبادره بالفعل من الإنسان ، وهنا تكمن العظمه فلن يبادر بالفعل الا من كان علي درايه بالقدر ” قدر الله عند الانسان .**

**بسم الله الرحمن الرحيم ” إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ۱ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ۲ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ۳ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ٤ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ” صدق الله العظيم**